فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القاسمي:

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ}.
يأمر تعالى عباده بِتَقْوَاهُ التي هي من جوامع الكلم، في فعل المأمورات واجتناب المنهيات.
قال المهايمي: أي: احفظوا تربيته عليكم، بصرف نعمه إلى ما خلقها لأجله، لئلا تقعوا في الكفران الموجب لانقلاب التربية عليكم، بالانتقام منكم. انتهى.
أي فالتعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن المالكية والتربية، مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين، لتأييد الأمر وتأكيد إيجاب الامتثال به ترغيبًا وترهيبًا. أي: احذروا عقوبة مالك أموركم ومربيكم، وقوله تعالى: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} تعليل لموجب الأمر، بذكر بعض عقوباته الهائلة. فإن ملاحظة عظمها وهولها، وفظاعة ما هي من مبادئه ومقدماته، من الأحوال والأهوال، التي لا ملجأ منها سوى التدرع بلباس التقوى، مما يوجب مزيد الاعتناء بملابسته وملازمته لا محالة. والزلزلة التحريك الشديد والإزعاج العنيف، بطريق التكرير بحيث يزيل الأشياء من مقارّها ويخرجها عن مراكزها. وإضافتُها للساعة، من إضافة المصدر إلى فاعله مجازًا، كأنها هي التي تزلزل. أو إلى ظرفه، وهي الزلزلة المذكورة في قوله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا} [الزلزلة: 1]، وفي التعبير عنها بالشيء، إيذان بأن العقول قاصرة عن إدراك كنهها، والعبارة لا تحيط بها إلا على وجه الإبهام. أفاده أبو السعود.
وقد وصف عظمها في كثير من السور والآيات. كسورة التكوير وسورة الانفطار وسورة الانشقاق وسورة الزلزال وغيرها. وقد أشير إلى شيء من بليغ هولها بقوله سبحانه: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَا أرضعت} أي: عن إرضاعها. أو عن الذي أرضعته وهو الطفل: {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا} أي: ما في بطنها لغير تمام: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى} أي: كأنهم سكارى: {وما هم بِسُكَارَى} أي: على التحقيق: {وَلَكِن عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} أي: ولَكِن ما رهقهم من خوف عذاب الله، هو الذي أذهب عقولهم، وطيّر تمييزهم، وردهم في نحو حال من يذهب السكر بعقله وتمييزه. قاله الزمخشريّ.
لطيفة:
قال الناصر في الانتصاف: العلماءُ يقولون: إن من أدلة المجاز صدق نقيضه، كقولك: زيد حمار، إذا وصفته بالبلادة. ثم يصدق أن تقول: وما هو بحمار، فتنفي عنه الحقيقة. فكذلك الآية. بعد أن أثبت السكر المجازيّ نفي الحقيقيّ أبلغ نفي مؤكّد بالباء. والسر في تأييده التنبيه على أن هذا السكر الذي هو بهم في تلك الحالة، ليس من المعهود في شيء، وإنما هو أمر لهم يعهدوا قبله مثله. والاستدراك بقوله: {وَلَكِن عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} راجع إلى قوله: {وما هم بِسُكَارَى} كأنه تعليل لإثبات السكر المجازيّ. كأنه قيل إذا لم يكونوا سكارى من الخمر، وهو السكر المعهود، فما هذا السكر الغريب وما سببه؟ فقال: سببه شدة عذاب الله تعالى. انتهى. اهـ.

.قال عبد الكريم الخطيب:

سورة الحج:
نزولها: اختلف فيها، فقال بعضهم: إنها مكية إلّا آيات، وقال آخرون: إنها مدنية إلّا آيات.. ونحن نغلّب الرأى القائل بأنها مدنية إلا بعض آيات منها فمكية.. ويكفى أن تسمّى سورة الحجّ، والحجّ إنما فرض بعد الهجرة.
عدد آياتها: ثمان وسبعون آية.
عدد كلماته: ألفان ومائتان، وإحدى وتسعون كلمة.
عدد حروفها: خمسة آلاف وخمسة وسبعون حرفا.
مناسبتها للسورة التي قبلها:
كانت سورة الأنبياء- السابقة على هذه السورة- حديثا متصلا عن أنبياء اللّه ورسله، وما ابتلاهم اللّه سبحانه وتعالى به من ضرّاء وسرّاء، ثم كانت عاقبتهم جميعا إلى العافية في الدنيا، وإلى رضا اللّه ورضوانه في الآخرة..
وقد بدئت هذه السورة- سورة الأنبياء- بهذا الخبر المثير: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} ثم ختمت السورة بهذا البلاغ المبين، الذي جاء به قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرض يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ} ثم تلتها الآيات التي تحدث عن النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- وأنه المبعوث رحمة للعالمين، وأنه لا يحمل الناس حملا على الهدى الذي بين يديه، فمن تولّى، فما على النبي من أمره شيء.. والموعد الآخرة، حيث يفصل اللّه بين العباد..
وقد جاءت سورة الحج فبدأت بهذا الإعلان، أو هذا النذير الصارخ:
{يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شيء عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَا أرضعت وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وما هم بِسُكارى وَلَكِن عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}.
وواضح ما بين بدء هذه السورة، وبدء سورة الأنبياء وخاتمتها، وما بين بدئها وختامها من تلاق وتلاحم.. بحيث يمكن أن تقرأ سورة الحج في أعقاب سورة الأنبياء، من غير فاصل بالبسملة، وكأنها بعض منها، وتعقيب على مقرراتها.
التفسير:
{يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ }.
بهذا الإعلام الصارخ المدوى تبدأ السورة الكريمة، منذرة الناس بهذا اليوم العظيم، يوم القيامة، منبهة لهم من غفلتهم، ملفتة لهم إلى ما هنالك من أهوال تشيب منها الولدان..
والإعلان عام للناس جميعا، مؤمنهم وكافرهم، المنتبه لهذا اليوم، والمعدّ نفسه له، ومن أنكره وكفر به، أو كان في غفلة عنه..
وذلك التعميم الذي يشمل الناس جميعا، إنما هو لأن أهوال هذا اليوم لا يكاد يتصورها أحد، لأنها تخرج عن دائرة التصور البشرى، وتجىء على صورة لم تقع للناس في حياتهم الأولى، على رغم ما وقع لهم من أهوال، وما نزل بهم من بلاء.. ومن هنا كان الذين يؤمنون بالآخرة، ولا يعملون لها، مطالبون بأن ينتبهوا، وأن يعملوا أكثر مما عملوا.. فإنهم- على يقظتهم، وعلى خوفهم من لقاء ربّهم، وعلى إعدادهم ليوم اللقاء- إنهم مع هذا كله أشبه بالغافلين.. فإن الهول شديد، وأن الموقف لا يمكن تصوره.. ومن هنا أيضا كان المؤمن في حاجة دائمة إلى تذكر هذا اليوم، وإلى الحياة معه، وإلى العمل له، وإنه مهما أكثر من عمل، فإنه قليل إلى المطلوب منه لهذا اليوم، لو علم هوله، وتصور صورته.
وقوله تعالى: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شيء عَظِيمٌ} هو عرض لهذا اليوم العظيم، وما يقع فيه من أهوال، وما يطلع به على الناس من مفزعات.. والزلزلة، الهزّة والرّعدة، وهي الإرهاصات التي تقوم بين يدى هذا اليوم.
قوله تعالى: {يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَا أرضعت وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وما هم بِسُكارى وَلَكِن عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}.
هو لقطات من مشاهد هذا اليوم.. فمجرد رؤية ما يطلع في هذا اليوم، يأخذ على الناس عقولهم، وأسماعهم وأبصارهم.. فتذهل كلّ مرضعة عمّا أرضعت، وتضع كلّ ذات حمل حملها.. حيث لا يملك أحد- مع هذا البلاء- شيئا من نفسه، فتتعطل فيه الأجهزة العاملة الأرادية منها وغير الأرادية..
ويصبح مجرد شبح يتحرك كما تتحرك الأشباح! والصورة هنا مجازية، فليس هناك مرضع حتى تذهل عن رضيعها، ولا حامل حتى تلقى بما في رحمها.. والمراد أنه لو طلعت الساعة على الناس في دنياهم، وأرتهم زلزلة منها، لذهلت كل مرضعة عما أرضعت، ولألقت كل ذات حمل حملها.. ويجوز أن يكون المراد بوضع الحمل العموم والشمول، أي كل شيء يحمل، سواء أكان ما في الأرحام من أجنة، أو ما مع الناس من أمور يشغلون بها، ويحرصون عليها.. وبهذا يكون المراد بذات الحمل: النفس.
ويمكن أن تكون هذه الصورة حقيقية، وأن من يشهد من الناس إرهاصات الساعة، ونذرها، قبل أن تقع، يقع لهم هذا.. فكيف بالساعة نفسها، حين ينكشف أمرها كله؟.
وقوله تعالى: {وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وما هم بِسُكارى وَلَكِن عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}.
هو عرض لصورة من صور الساعة بين يدى نذرها.. فهذه النذر تقلب أوضاع الحياة، وتطلع على الناس بما لم يروه في حياتهم من مذهلات.. وهذا ما بشير إليه قوله تعالى: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هي شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ} [97: الأنبياء]. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1)}.
نداء للناس كلهم من المؤمنين وأهل الكتاب والمشركين الذين يسمعون هذه الآية من الموجودين يومَ نزولها ومن يأتون بعدهم إلى يوم القيامة، ليتلقوا الأمر بتقوى الله وخشيته، أي خشية مخالفة ما يأمرهم به على لسان رسوله، فتقوى كل فريق بحسب حالهم من التلبس بما نهى الله عنه والتفريط فيما أمر به، ليستبدلوا ذلك بضده.
وأول فريق من الناس دخولًا في خطاب {يا أيها الناس} هم المشركون من أهل مكة حتى قيل إن الخطاب بذلك خاص بهم.
وهذا يشمل مشركي أهل المدينة قبل صفائها منهم.
وفي التعبير عن الذات العلية بصفة الرب مضافًا إلى ضمير المخاطبين إيماء إلى استحقاقه أن يُتَّقَى لعظمته بالخالقية، وإلى جدارة الناس بأن يتقوه لأنه بصفة تدبير الربوبية لا يأمر ولا ينهى إلا لمرعي مصالح الناس ودرء المفاسد عنهم.
وكلا الأمرين لا يفيده غير وصف الرب دون نحو الخالق والسيّد.
وتعليق التقوى بذات الرب يقتضي بدلالة الاقتضاء معنى اتقاء مخالفته أو عقابه أو نحو ذلك لأن التقوى لا تتعلق بالذات بل بشأنٍ لها مناسببٍ للمقام.
وأول تقواه هو تنزيهه عن النقائص، وفي مقدمة ذلك تنزيهه عن الشركاء باعتقاد وحدانيته في الإلهية.
وجملة {إن زلزلة الساعة شيء عظيم} في موضع العلة للأمر بالتقوى كما يفيده حرف التوكيد الواقع في مقام خطاببٍ لا تردد للسامع فيه.
والتعليل يقتضي أن لزلزلة الساعة أثرًا في الأمر بالتقوى وهو أنه وقت لحصول الجزاء على التقوى وعلى العصيان وذلك على وجه الإجمال المفصل بما بعده في قوله: {ولَكِن عذاب الله شديد} [الحج: 2].
والزلزلة حقيقتها: تحرك عنيف في جهة من سطح الأرض من أثر ضغط مجاري الهواء الكائن في طبقات الأرض القريبة من ظاهر الأرض.
وهي من الظواهر الأرضية المرعبة ينشأ عنها تساقط البناء وقد ينشأ عنها خسف الأشياء في باطن الأرض.
والساعة: عَلَم بالغلبة في اصطلاح القران على وقت فناء الدنيا والخلوص إلى عالم الحشر الآخروي، قال تعالى: {إذا زلزلت الأرض زلزالها} إلى قوله: {يومئذ يصدر الناس أشتاتًا ليروا أعمالهم} [الزلزلة].
وإضافة {زلزلة} إلى {الساعة} على معنى في، أي الزلزلة التي تحدث وقت حلول الساعة.
فيجوز أن تكون الزلزلة في الدنيا أو في وقت الحشر.
والظاهر حمل الزلزلة على الحقيقة، وهي حاصلة عند إشراف العالم الدنيوي على الفناء وفساد نظامه فإضافتها إلى الساعة إضافة حقيقية فيكون في معنى قوله تعالى: {إذا زلزلت الأرض زلزالها} [الزلزلة: 1] الآية.
ويجوز أن تكون الزلزلة مجازًا عن الأهوال والمفزعات التي تحصل يوم القيامة فإن ذلك تستعار له الزلزلة، قال تعالى: {وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله} [البقرة: 214] أي أصيبوا بالكوارث والأضرار لقوله قبله: {مستهم البأساء والضراء} [البقرة: 214].
وفي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على الأحزاب: «اللهم اهزمهم وزلزلهم».
والإتيان بلفظ {شيء} للتهويل بتوغله في التنكير، أي زلزلة الساعة لا يعرّف كنهها إلاّ بأنها شيء عظيم، وهذا من المواقع التي يحسن فيها موقع كلمة {شيء} وهي التي نبّه عليها الشيخ عبد القاهر في دلائل الإعجاز في فصل في تحقيق القول على البلاغة والفصاحة وقد ذكرناه عند قوله تعالى: {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئًا} في [سورة البقرة: 229].
والعظيم: الضخم، وهو هنا استعارة للقوي الشديد، والمقام يفيد أنه شديد في الشرّ.
{يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَا أرضعت}.
جملة {يوم ترونها تذهل}... إلخ.
بيان لجملة {إن زلزلة الساعة شيء عظيم} [الحج: 1] لأن ما ذكر في هذه الجملة يبيّن معنى كونها شيئًا عظيمًا وهو أنه عظيم في الشرّ والرعب.
ويتعلق {يوم ترونها} بفعل {تذهل} وتقديمُه على عامله للاهتمام بالتوقيت بذلك اليوم وتوقع رؤيته لكل مخاطب من الناس.